القرآن الكريم » تفسير القرطبي » سورة الأنعام
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) (الأنعام) 
سُورَة الْأَنْعَام وَهِيَ مَكِّيَّة فِي قَوْل الْأَكْثَرِينَ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : هِيَ مَكِّيَّة كُلّهَا إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ , قَوْله تَعَالَى : " وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره " [ الْأَنْعَام : 91 ] نَزَلَتْ فِي مَالِك بْن الصَّيْف وَكَعْب بْن الْأَشْرَف الْيَهُودِيَّيْنِ وَالْأُخْرَى قَوْله : " وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّات مَعْرُوشَات وَغَيْر مَعْرُوشَات " [ الْأَنْعَام : 141 ] نَزَلَتْ فِي ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس الْأَنْصَارِيّ وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : نَزَلَتْ فِي مُعَاذ بْن جَبَل وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ سُورَة " الْأَنْعَام " مَكِّيَّة إِلَّا سِتّ آيَات نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ " وَمَا قَدَرُوا اللَّه حَقّ قَدْره " إِلَى آخِر ثَلَاث آيَات و " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ " [ الْأَنْعَام : 151 ] إِلَى آخِر ثَلَاث آيَات قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهِيَ الْآيَات الْمُحْكَمَات وَذَكَر اِبْن الْعَرَبِيّ : أَنَّ قَوْله تَعَالَى : " قُلْ لَا أَجِد " نَزَلَ بِمَكَّة يَوْم عَرَفَة وَسَيَأْتِي الْقَوْل فِي جَمِيع ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه وَفِي الْخَبَر أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَة وَاحِدَة غَيْر السِّتّ الْآيَات وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْف مَلَك مَعَ آيَة وَاحِدَة مِنْهَا اِثْنَا عَشَر أَلْف مَلَك وَهِيَ " وَعِنْده مَفَاتِح الْغَيْب لَا يَعْلَمهَا إِلَّا هُوَ " [ الْأَنْعَام : 59 ] نَزَلُوا بِهَا لَيْلًا لَهُمْ زَجَل بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيد فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّاب فَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتهمْ وَأَسْنَدَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم رَوْح بْن الْفَرَج مَوْلَى الْحَضَارِمَة قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد أَبُو بَكْر الْعُمَرِيّ حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي فُدَيْك حَدَّثَنِي عُمَر بْن طَلْحَة بْن عَلْقَمَة بْن وَقَّاص عَنْ نَافِع أَبِي سَهْل بْن مَالِك عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نَزَلَتْ سُورَة الْأَنْعَام مَعَهَا مَوْكِب مِنْ الْمَلَائِكَة سَدَّ مَا بَيْن الْخَافِقَيْنِ لَهُمْ زَجَل بِالتَّسْبِيحِ ) وَالْأَرْض لَهُمْ تَرْتَجّ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( سُبْحَان رَبِّيَ الْعَظِيم ) ثَلَاث مَرَّات وَذَكَرَ الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : الْأَنْعَام مِنْ نَجَائِب الْقُرْآن . وَفِيهِ عَنْ كَعْب قَالَ : فَاتِحَة " التَّوْرَاة " فَاتِحَة الْأَنْعَام وَخَاتِمَتهَا خَاتِمَة " هُود " . وَقَالَهُ وَهْب بْن مُنَبِّه أَيْضًا وَذَكَر الْمَهْدَوِيّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ إِنَّ " التَّوْرَاة " اُفْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض " [ الْأَنْعَام : 1 ] الْآيَة وَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيك فِي الْمُلْك " [ الْإِسْرَاء : 111 ] إِلَى آخِر الْآيَة وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( مَنْ قَرَأَ ثَلَاث آيَات مِنْ أَوَّل سُورَة " الْأَنْعَام " إِلَى قَوْله : " وَيَعْلَم مَا تَكْسِبُونَ " [ الْأَنْعَام : 3 ] وَكَّلَ اللَّه بِهِ أَرْبَعِينَ أَلْف مَلَك يَكْتُبُونَ لَهُ مِثْل عِبَادَتهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَيَنْزِل مَلَك مِنْ السَّمَاء السَّابِعَة وَمَعَهُ مِرْزَبَة مِنْ حَدِيد , فَإِذَا أَرَادَ الشَّيْطَان أَنْ يُوَسْوِس لَهُ أَوْ يُوحِي فِي قَلْبه شَيْئًا ضَرَبَهُ ضَرْبَة فَيَكُون بَيْنه وَبَيْنه سَبْعُونَ حِجَابًا فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة قَالَ اللَّه تَعَالَى : " اِمْشِ فِي ظِلِّي يَوْم لَا ظِلّ إِلَّا ظِلِّي وَكُلْ مِنْ ثِمَار جَنَّتِي وَاشْرَبْ مِنْ مَاء الْكَوْثَر وَاغْتَسِلْ مِنْ مَاء السَّلْسَبِيل فَأَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبّك " . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : إِذَا سَرَّك أَنْ تَعْلَم جَهْل الْعَرَب فَاقْرَأْ مَا فَوْق الثَّلَاثِينَ وَمِائَة مِنْ سُورَة " الْأَنْعَام " " قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادهمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْم " إِلَى قَوْله : " وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ " [ الْأَنْعَام : 140 ] . تَنْبِيه : قَالَ الْعُلَمَاء : هَذِهِ السُّورَة أَصْل فِي مُحَاجَّة الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرهمْ مِنْ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُور وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْزَالهَا جُمْلَة وَاحِدَة لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِد مِنْ الْحُجَّة وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَة وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُول الدِّين لِأَنَّ فِيهَا آيَات بَيِّنَات تَرُدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة دُون السُّوَر الَّتِي تَذْكُر وَالْمَذْكُورَات وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا إِنْ شَاءَ اللَّه بِحَوْلِ اللَّه تَعَالَى وَعَوْنه .
" الْحَمْد لِلَّهِ " بَدَأَ سُبْحَانه فَاتِحَتهَا بِالْحَمْدِ عَلَى نَفْسه وَإِثْبَات الْأُلُوهِيَّة أَيْ أَنَّ الْحَمْد كُلّه لَهُ فَلَا شَرِيك لَهُ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اُفْتُتِحَ غَيْرهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَكَانَ الِاجْتِزَاء بِوَاحِدَةٍ يُغْنِي عَنْ سَائِره فَيُقَال : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُ مَعْنًى فِي مَوْضِعه لَا يُؤَدِّي عَنْهُ غَيْره مِنْ أَجْل عَقْده بِالنِّعَمِ الْمُخْتَلِفَة وَأَيْضًا فَلِمَا فِيهِ مِنْ الْحُجَّة فِي هَذَا الْمَوْضِع عَلَى الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
الْحَمْد فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهُ الثَّنَاء الْكَامِل ; وَالْأَلِف وَاللَّام لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْس مِنْ الْمَحَامِد ; فَهُوَ سُبْحَانه يَسْتَحِقّ الْحَمْد بِأَجْمَعِهِ إِذْ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى وَالصِّفَات الْعُلَا ; وَقَدْ جُمِعَ لَفْظ الْحَمْد جَمْع الْقِلَّة فِي قَوْل الشَّاعِر : وَأُبْلِجَ مَحْمُود الثَّنَاء خَصَصْته بِأَفْضَل أَقْوَالِي وَأَفْضَل أَحْمُدِي فَالْحَمْد نَقِيض الذَّمّ , تَقُول : حَمِدْت الرَّجُل أَحْمَدهُ حَمْدًا فَهُوَ حَمِيد وَمَحْمُود ; وَالتَّحْمِيد أَبْلَغ مِنْ الْحَمْد . وَالْحَمْد أَعَمّ مِنْ الشُّكْر , وَالْمُحَمَّد : الَّذِي كَثُرَتْ خِصَاله الْمَحْمُودَة . قَالَ الشَّاعِر : إِلَى الْمَاجِد الْقَرْم الْجَوَاد الْمُحَمَّد وَبِذَلِكَ سُمِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الشَّاعِر : فَشَقَّ لَهُ مِنْ اِسْمه لِيُجِلّهُ فَذُو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد وَالْمَحْمَدَة : خِلَاف الْمَذَمَّة . وَأُحْمِدَ الرَّجُل : صَارَ أَمْره إِلَى الْحَمْد . وَأَحْمَدْته : وَجَدْته مَحْمُودًا , تَقُول : أَتَيْت مَوْضِع كَذَا فَأَحْمَدْته ; أَيْ صَادَفْته مَحْمُودًا مُوَافِقًا , وَذَلِكَ إِذَا رَضِيت سُكْنَاهُ أَوْ مَرْعَاهُ . وَرَجُل حُمَدَة - مِثْل هُمَزَة - يُكْثِر حَمْد الْأَشْيَاء وَيَقُول فِيهَا أَكْثَر مِمَّا فِيهَا . وَحَمَدَة النَّار - بِالتَّحْرِيكِ - : صَوْت اِلْتِهَابهَا .
ذَهَبَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَأَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد إِلَى أَنَّ الْحَمْد وَالشُّكْر بِمَعْنًى وَاحِد سَوَاء , وَلَيْسَ بِمَرْضِيٍّ . وَحَكَاهُ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ فِي كِتَاب " الْحَقَائِق " لَهُ عَنْ جَعْفَر الصَّادِق وَابْن عَطَاء . قَالَ اِبْن عَطَاء : مَعْنَاهُ الشُّكْر لِلَّهِ ; إِذْ كَانَ مِنْهُ الِامْتِنَان عَلَى تَعْلِيمنَا إِيَّاهُ حَتَّى حَمِدْنَاهُ . وَاسْتَدَلَّ الطَّبَرِيّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى بِصِحَّة قَوْلك : الْحَمْد لِلَّهِ شُكْرًا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة دَلِيل عَلَى خِلَاف مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلك شُكْرًا , إِنَّمَا خَصَصْت بِهِ الْحَمْد ; لِأَنَّهُ عَلَى نِعْمَة مِنْ النِّعَم . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ الشُّكْر أَعَمّ مِنْ الْحَمْد ; لِأَنَّهُ بِاللِّسَانِ وَبِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْب ; وَالْحَمْد إِنَّمَا يَكُون بِاللِّسَانِ خَاصَّة . وَقِيلَ : الْحَمْد أَعَمّ ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الشُّكْر وَمَعْنَى الْمَدْح , وَهُوَ أَعَمّ مِنْ الشُّكْر ; لِأَنَّ الْحَمْد يُوضَع مَوْضِع الشُّكْر وَلَا يُوضَع الشُّكْر مَوْضِع الْحَمْد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ كَلِمَة كُلّ شَاكِر , وَإِنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ حِين عَطَسَ : الْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ اللَّه لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَام : " فَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْم الظَّالِمِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 28 ] وَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق " [ إِبْرَاهِيم : 3 ] . وَقَالَ فِي قِصَّة دَاوُد وَسُلَيْمَان : " وَقَالَا الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِير مِنْ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ " [ النَّمْل : 15 ] . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذ وَلَدًا " [ الْإِسْرَاء : 111 ] . وَقَالَ أَهْل الْجَنَّة : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَن " [ فَاطِر : 34 ] . " وَآخِر دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " [ يُونُس : 10 ] . فَهِيَ كَلِمَة كُلّ شَاكِر .
قُلْت : الصَّحِيح أَنَّ الْحَمْد ثَنَاء عَلَى الْمَمْدُوح بِصِفَاتِهِ مِنْ غَيْر سَبْق إِحْسَان , وَالشُّكْر ثَنَاء عَلَى الْمَشْكُور بِمَا أَوْلَى مِنْ الْإِحْسَان . وَعَلَى هَذَا الْحَدّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْحَمْد أَعَمّ مِنْ الشُّكْر ; لِأَنَّ الْحَمْد يَقَع عَلَى الثَّنَاء وَعَلَى التَّحْمِيد وَعَلَى الشُّكْر ; وَالْجَزَاء مَخْصُوص إِنَّمَا يَكُون مُكَافَأَة لِمَنْ أَوْلَاك مَعْرُوفًا ; فَصَارَ الْحَمْد أَعَمّ فِي الْآيَة لِأَنَّهُ يَزِيد عَلَى الشُّكْر . وَيُذْكَر الْحَمْد بِمَعْنَى الرِّضَا ; يُقَال : بَلَوْته فَحَمِدْته , أَيْ رَضِيته . وَمِنْهُ قَوْل تَعَالَى : " مَقَامًا مَحْمُودًا " [ الْإِسْرَاء : 79 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَحْمَد إِلَيْكُمْ غَسْل الْإِحْلِيل ) أَيْ أَرْضَاهُ لَكُمْ . وَيُذْكَر عَنْ جَعْفَر الصَّادِق فِي قَوْله " الْحَمْد لِلَّهِ " : مَنْ حَمِدَهُ بِصِفَاتِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسه فَقَدْ حَمِدَ ; لِأَنَّ الْحَمْد حَاء وَمِيم وَدَال ; فَالْحَاء مِنْ الْوَحْدَانِيَّة , وَالْمِيم مِنْ الْمُلْك , وَالدَّال مِنْ الدَّيْمُومِيَّة ; فَمَنْ عَرَفَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالدَّيْمُومِيَّة وَالْمُلْك فَقَدْ عَرَفَهُ , وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ شَقِيق بْن إِبْرَاهِيم فِي تَفْسِير " الْحَمْد لِلَّهِ " قَالَ : هُوَ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : أَوَّلهَا إِذَا أَعْطَاك اللَّه شَيْئًا تَعْرِف مَنْ أَعْطَاك . وَالثَّانِي أَنْ تَرْضَى بِمَا أَعْطَاكَ . وَالثَّالِث مَا دَامَتْ قُوَّته فِي جَسَدك أَلَّا تَعْصِيه ; فَهَذِهِ شَرَائِط الْحَمْد . أَثْنَى اللَّه سُبْحَانه بِالْحَمْدِ عَلَى نَفْسه , وَافْتَتَحَ كِتَابه بِحَمْدِهِ , وَلَمْ يَأْذَن فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ; بَلْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابه وَعَلَى لِسَان نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : " فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسكُمْ هُوَ أَعْلَم بِمَنْ اِتَّقَى " [ النَّجْم : 32 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اُحْثُوا فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ التُّرَاب ) رَوَاهُ الْمِقْدَاد .
أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَته وَعِلْمه وَإِرَادَته فَقَالَ : الَّذِي خَلَقَ أَيْ اِخْتَرَعَ وَأَوْجَدَ وَأَنْشَأَ وَابْتَدَعَ وَالْخَلْق يَكُون بِمَعْنَى الِاخْتِرَاع وَيَكُون بِمَعْنَى التَّقْدِير , وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكِلَاهُمَا مُرَاد هُنَا وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى حُدُوثهمَا فَرَفَعَ السَّمَاء بِغَيْرِ عَمَد وَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَة مِنْ غَيْر أَوَد وَجَعَلَ فِيهَا الشَّمْس وَالْقَمَر آيَتَيْنِ وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ وَأَوْدَعَهَا السَّحَاب وَالْغُيُوم عَلَامَتَيْنِ وَبَسَطَ الْأَرْض وَأَوْدَعَهَا الْأَرْزَاق وَالنَّبَات وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَابَّة آيَات جَعَلَ فِيهَا الْجِبَال أَوْتَادًا وَسُبُلًا فِجَاجًا وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَار وَالْبِحَار وَفَجَّرَ فِيهَا الْعُيُون مِنْ الْأَحْجَار دَلَالَات عَلَى وَحْدَانِيّته , وَعَظِيم قُدْرَته وَأَنَّهُ هُوَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار وَبَيَّنَ بِخَلْقِهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنَّهُ خَالِق كُلّ شَيْء .
خَرَّجَ مُسْلِم قَالَ : حَدَّثَنِي سُرَيْج بْن يُونُس وَهَارُون بْن عَبْد اللَّه قَالَا حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مُحَمَّد قَالَ قَالَ اِبْن جُرَيْج أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد عَنْ عَبْد اللَّه بْن رَافِع مَوْلَى أُمّ سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْ فَقَالَ : ( خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَة يَوْم السَّبْت وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَال يَوْم الْأَحَد وَخَلَقَ الشَّجَر يَوْم الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوه يَوْم الثُّلَاثَاء وَخَلَقَ النُّور يَوْم الْأَرْبِعَاء وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابّ يَوْم الْخَمِيس وَخَلَقَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام بَعْد الْعَصْر مِنْ يَوْم الْجُمُعَة فِي آخِر الْخَلْق فِي آخِر سَاعَة مِنْ سَاعَات الْجُمُعَة فِيمَا بَيْن الْعَصْر إِلَى اللَّيْل ) . قُلْت : أَدْخَلَ الْعُلَمَاء هَذَا الْحَدِيث تَفْسِيرًا لِفَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَة ; قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَزَعَمَ أَهْل الْعِلْم بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ غَيْر مَحْفُوظ لِمُخَالَفَةِ مَا عَلَيْهِ أَهْل التَّفْسِير وَأَهْل التَّوَارِيخ . وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد وَإِبْرَاهِيم غَيْر مُحْتَجّ بِهِ وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى قَالَ : سَأَلْت عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ عَنْ حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة ( خَلَقَ اللَّه التُّرْبَة يَوْم السَّبْت ) . فَقَالَ عَلِيّ : هَذَا حَدِيث مَدَنِيّ رَوَاهُ هِشَام بْن يُوسُف عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد عَنْ أَبِي رَافِع مَوْلَى أُمّ سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْ قَالَ عَلِيّ : وَشَبَّكَ بِيَدِي إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى فَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَيُّوب بْن خَالِد وَقَالَ لِي شَبَّكَ بِيَدِي عَبْد اللَّه بْن رَافِع وَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَة وَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو الْقَاسِم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( خَلَقَ اللَّه الْأَرْض يَوْم السَّبْت ) فَذَكَرَ الْحَدِيث بِنَحْوِهِ . قَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ : وَمَا أَرَى إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة أَخَذَ هَذَا الْأَمْر إِلَّا مِنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُوسَى بْن عُبَيْدَة الرَّبَذِيّ عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد إِلَّا أَنَّ مُوسَى بْن عُبَيْدَة ضَعِيف . وَرُوِيَ عَنْ بَكْر بْن الشَّرُود عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْم عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد وَإِسْنَاده ضَعِيف عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ فِي الْجُمُعَة سَاعَة لَا يُوَافِقهَا أَحَد يَسْأَل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ) قَالَ فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن سَلَّام : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اِبْتَدَأَ الْخَلْق فَخَلَقَ الْأَرْض يَوْم الْأَحَد وَيَوْم الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ السَّمَوَات يَوْم الثُّلَاثَاء وَيَوْم الْأَرْبِعَاء وَخَلَقَ الْأَقْوَات وَمَا فِي الْأَرْض يَوْم الْخَمِيس وَيَوْم الْجُمُعَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر وَمَا بَيْن صَلَاة الْعَصْر إِلَى أَنْ تَغْرُب الشَّمْس خَلَقَ آدَم خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيّ قُلْت : وَفِيهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَدَأَ الْخَلْق يَوْم الْأَحَد لَا يَوْم السَّبْت . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَدَّمَ فِيهَا الِاخْتِلَاف أَيّمَا خُلِقَ أَوَّلًا الْأَرْض أَوْ السَّمَاء مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ .
ذَكَرَ بَعْد خَلْق الْجَوَاهِر خَلْق الْأَعْرَاض لِكَوْنِ الْجَوْهَر لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْحَوَادِث فَهُوَ حَادِث . وَالْجَوْهَر فِي اِصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الْجُزْء الَّذِي لَا يَتَجَزَّأ الْحَامِل لِلْعَرَضِ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْره فِي الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى فِي اِسْمه " الْوَاحِد " وَسُمِّيَ الْعَرَض عَرَضًا لِأَنَّهُ يَعْرِض فِي الْجِسْم وَالْجَوْهَر فَيَتَغَيَّر بِهِ مِنْ حَال إِلَى حَال وَالْجِسْم هُوَ الْمُجْتَمَع وَأَقَلّ مَا يَقَع عَلَيْهِ اِسْم الْجِسْم جَوْهَرَانِ مُجْتَمِعَانِ وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَات وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَة فِي الصَّدْر الْأَوَّل فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا وَقَدْ اِسْتَعْمَلَهَا الْعُلَمَاء وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا كَلَامهمْ وَقَتَلُوا بِهَا خُصُومهمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّور فَقَالَ السُّدِّيّ وَقَتَادَة وَجُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ : الْمُرَاد سَوَاد اللَّيْل وَضِيَاء النَّهَار وَقَالَ الْحَسَن الْكُفْر وَالْإِيمَان قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خُرُوج عَنْ الظَّاهِر قُلْت : اللَّفْظ يَعُمّهُ وَفِي التَّنْزِيل : " أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَله فِي الظُّلُمَات " [ الْأَنْعَام : 122 ] . وَالْأَرْض هُنَا اِسْم لِلْجِنْسِ فَإِفْرَادهَا فِي اللَّفْظ بِمَنْزِلَةِ جَمْعهَا وَكَذَلِكَ " وَالنُّور " وَمِثْله " ثُمَّ يُخْرِجكُمْ طِفْلًا " [ غَافِر : 67 ] وَقَالَ الشَّاعِر : كُلُوا فِي بَعْض بَطْنكُمْ تَعِفُّوا وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوز غَيْره قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . قُلْت : وَعَلَيْهِ يَتَّفِق اللَّفْظ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَق فَيَكُون الْجَمْع مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْع وَالْمُفْرَد مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَد فَيَتَجَانَس اللَّفْظ وَتَظْهَر الْفَصَاحَة وَاَللَّه أَعْلَم وَقِيلَ : جَمَعَ " الظُّلُمَات " وَوَحَّدَ " النُّور " لِأَنَّ الظُّلُمَات لَا تَتَعَدَّى وَالنُّور يَتَعَدَّى وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ أَنَّ بَعْض أَهْل الْمَعَانِي قَالَ : " جَعَلَ " هُنَا زَائِدَة وَالْعَرَب تَزِيد " جَعَلَ " فِي الْكَلَام كَقَوْلِ الشَّاعِر : وَقَدْ جَعَلْت أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَة وَالْوَاحِد اِثْنَيْنِ لَمَّا هَدَّنِي الْكِبَر قَالَ النَّحَّاس : جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُول وَاحِد . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَمُحَامِل جَعَلَ فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى .
اِبْتِدَاء وَخَبَر وَالْمَعْنَى : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَدْلًا وَشَرِيكًا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاء وَحْده قَالَ اِبْن عَطِيَّة : ف " ثُمَّ " دَالَّة عَلَى قُبْح فِعْل الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمَعْنَى : أَنَّ خَلْقه السَّمَوَات وَالْأَرْض قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاته قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامه بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كُلّه عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُول : يَا فُلَان أَعْطَيْتُك وَأَكْرَمْتُك وَأَحْسَنْت إِلَيْك ثُمَّ تَشْتُمنِي وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْف بِالْوَاوِ فِي هَذَا وَنَحْوه لَمْ يَلْزَم التَّوْبِيخ كَلُزُومِهِ بِثُمَّ وَاَللَّه أَعْلَم .
" الْحَمْد لِلَّهِ " بَدَأَ سُبْحَانه فَاتِحَتهَا بِالْحَمْدِ عَلَى نَفْسه وَإِثْبَات الْأُلُوهِيَّة أَيْ أَنَّ الْحَمْد كُلّه لَهُ فَلَا شَرِيك لَهُ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اُفْتُتِحَ غَيْرهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَكَانَ الِاجْتِزَاء بِوَاحِدَةٍ يُغْنِي عَنْ سَائِره فَيُقَال : لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُ مَعْنًى فِي مَوْضِعه لَا يُؤَدِّي عَنْهُ غَيْره مِنْ أَجْل عَقْده بِالنِّعَمِ الْمُخْتَلِفَة وَأَيْضًا فَلِمَا فِيهِ مِنْ الْحُجَّة فِي هَذَا الْمَوْضِع عَلَى الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
الْحَمْد فِي كَلَام الْعَرَب مَعْنَاهُ الثَّنَاء الْكَامِل ; وَالْأَلِف وَاللَّام لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْس مِنْ الْمَحَامِد ; فَهُوَ سُبْحَانه يَسْتَحِقّ الْحَمْد بِأَجْمَعِهِ إِذْ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى وَالصِّفَات الْعُلَا ; وَقَدْ جُمِعَ لَفْظ الْحَمْد جَمْع الْقِلَّة فِي قَوْل الشَّاعِر : وَأُبْلِجَ مَحْمُود الثَّنَاء خَصَصْته بِأَفْضَل أَقْوَالِي وَأَفْضَل أَحْمُدِي فَالْحَمْد نَقِيض الذَّمّ , تَقُول : حَمِدْت الرَّجُل أَحْمَدهُ حَمْدًا فَهُوَ حَمِيد وَمَحْمُود ; وَالتَّحْمِيد أَبْلَغ مِنْ الْحَمْد . وَالْحَمْد أَعَمّ مِنْ الشُّكْر , وَالْمُحَمَّد : الَّذِي كَثُرَتْ خِصَاله الْمَحْمُودَة . قَالَ الشَّاعِر : إِلَى الْمَاجِد الْقَرْم الْجَوَاد الْمُحَمَّد وَبِذَلِكَ سُمِّيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ الشَّاعِر : فَشَقَّ لَهُ مِنْ اِسْمه لِيُجِلّهُ فَذُو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد وَالْمَحْمَدَة : خِلَاف الْمَذَمَّة . وَأُحْمِدَ الرَّجُل : صَارَ أَمْره إِلَى الْحَمْد . وَأَحْمَدْته : وَجَدْته مَحْمُودًا , تَقُول : أَتَيْت مَوْضِع كَذَا فَأَحْمَدْته ; أَيْ صَادَفْته مَحْمُودًا مُوَافِقًا , وَذَلِكَ إِذَا رَضِيت سُكْنَاهُ أَوْ مَرْعَاهُ . وَرَجُل حُمَدَة - مِثْل هُمَزَة - يُكْثِر حَمْد الْأَشْيَاء وَيَقُول فِيهَا أَكْثَر مِمَّا فِيهَا . وَحَمَدَة النَّار - بِالتَّحْرِيكِ - : صَوْت اِلْتِهَابهَا .
ذَهَبَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَأَبُو الْعَبَّاس الْمُبَرِّد إِلَى أَنَّ الْحَمْد وَالشُّكْر بِمَعْنًى وَاحِد سَوَاء , وَلَيْسَ بِمَرْضِيٍّ . وَحَكَاهُ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ فِي كِتَاب " الْحَقَائِق " لَهُ عَنْ جَعْفَر الصَّادِق وَابْن عَطَاء . قَالَ اِبْن عَطَاء : مَعْنَاهُ الشُّكْر لِلَّهِ ; إِذْ كَانَ مِنْهُ الِامْتِنَان عَلَى تَعْلِيمنَا إِيَّاهُ حَتَّى حَمِدْنَاهُ . وَاسْتَدَلَّ الطَّبَرِيّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى بِصِحَّة قَوْلك : الْحَمْد لِلَّهِ شُكْرًا . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة دَلِيل عَلَى خِلَاف مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ قَوْلك شُكْرًا , إِنَّمَا خَصَصْت بِهِ الْحَمْد ; لِأَنَّهُ عَلَى نِعْمَة مِنْ النِّعَم . وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ الشُّكْر أَعَمّ مِنْ الْحَمْد ; لِأَنَّهُ بِاللِّسَانِ وَبِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْب ; وَالْحَمْد إِنَّمَا يَكُون بِاللِّسَانِ خَاصَّة . وَقِيلَ : الْحَمْد أَعَمّ ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الشُّكْر وَمَعْنَى الْمَدْح , وَهُوَ أَعَمّ مِنْ الشُّكْر ; لِأَنَّ الْحَمْد يُوضَع مَوْضِع الشُّكْر وَلَا يُوضَع الشُّكْر مَوْضِع الْحَمْد . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ كَلِمَة كُلّ شَاكِر , وَإِنَّ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ حِين عَطَسَ : الْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ اللَّه لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَام : " فَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْم الظَّالِمِينَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 28 ] وَقَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق " [ إِبْرَاهِيم : 3 ] . وَقَالَ فِي قِصَّة دَاوُد وَسُلَيْمَان : " وَقَالَا الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِير مِنْ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ " [ النَّمْل : 15 ] . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَقُلْ الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذ وَلَدًا " [ الْإِسْرَاء : 111 ] . وَقَالَ أَهْل الْجَنَّة : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَن " [ فَاطِر : 34 ] . " وَآخِر دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " [ يُونُس : 10 ] . فَهِيَ كَلِمَة كُلّ شَاكِر .
قُلْت : الصَّحِيح أَنَّ الْحَمْد ثَنَاء عَلَى الْمَمْدُوح بِصِفَاتِهِ مِنْ غَيْر سَبْق إِحْسَان , وَالشُّكْر ثَنَاء عَلَى الْمَشْكُور بِمَا أَوْلَى مِنْ الْإِحْسَان . وَعَلَى هَذَا الْحَدّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْحَمْد أَعَمّ مِنْ الشُّكْر ; لِأَنَّ الْحَمْد يَقَع عَلَى الثَّنَاء وَعَلَى التَّحْمِيد وَعَلَى الشُّكْر ; وَالْجَزَاء مَخْصُوص إِنَّمَا يَكُون مُكَافَأَة لِمَنْ أَوْلَاك مَعْرُوفًا ; فَصَارَ الْحَمْد أَعَمّ فِي الْآيَة لِأَنَّهُ يَزِيد عَلَى الشُّكْر . وَيُذْكَر الْحَمْد بِمَعْنَى الرِّضَا ; يُقَال : بَلَوْته فَحَمِدْته , أَيْ رَضِيته . وَمِنْهُ قَوْل تَعَالَى : " مَقَامًا مَحْمُودًا " [ الْإِسْرَاء : 79 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( أَحْمَد إِلَيْكُمْ غَسْل الْإِحْلِيل ) أَيْ أَرْضَاهُ لَكُمْ . وَيُذْكَر عَنْ جَعْفَر الصَّادِق فِي قَوْله " الْحَمْد لِلَّهِ " : مَنْ حَمِدَهُ بِصِفَاتِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسه فَقَدْ حَمِدَ ; لِأَنَّ الْحَمْد حَاء وَمِيم وَدَال ; فَالْحَاء مِنْ الْوَحْدَانِيَّة , وَالْمِيم مِنْ الْمُلْك , وَالدَّال مِنْ الدَّيْمُومِيَّة ; فَمَنْ عَرَفَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالدَّيْمُومِيَّة وَالْمُلْك فَقَدْ عَرَفَهُ , وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ شَقِيق بْن إِبْرَاهِيم فِي تَفْسِير " الْحَمْد لِلَّهِ " قَالَ : هُوَ عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه : أَوَّلهَا إِذَا أَعْطَاك اللَّه شَيْئًا تَعْرِف مَنْ أَعْطَاك . وَالثَّانِي أَنْ تَرْضَى بِمَا أَعْطَاكَ . وَالثَّالِث مَا دَامَتْ قُوَّته فِي جَسَدك أَلَّا تَعْصِيه ; فَهَذِهِ شَرَائِط الْحَمْد . أَثْنَى اللَّه سُبْحَانه بِالْحَمْدِ عَلَى نَفْسه , وَافْتَتَحَ كِتَابه بِحَمْدِهِ , وَلَمْ يَأْذَن فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ; بَلْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابه وَعَلَى لِسَان نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ : " فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسكُمْ هُوَ أَعْلَم بِمَنْ اِتَّقَى " [ النَّجْم : 32 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اُحْثُوا فِي وُجُوه الْمَدَّاحِينَ التُّرَاب ) رَوَاهُ الْمِقْدَاد .
أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَته وَعِلْمه وَإِرَادَته فَقَالَ : الَّذِي خَلَقَ أَيْ اِخْتَرَعَ وَأَوْجَدَ وَأَنْشَأَ وَابْتَدَعَ وَالْخَلْق يَكُون بِمَعْنَى الِاخْتِرَاع وَيَكُون بِمَعْنَى التَّقْدِير , وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكِلَاهُمَا مُرَاد هُنَا وَذَلِكَ دَلِيل عَلَى حُدُوثهمَا فَرَفَعَ السَّمَاء بِغَيْرِ عَمَد وَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَة مِنْ غَيْر أَوَد وَجَعَلَ فِيهَا الشَّمْس وَالْقَمَر آيَتَيْنِ وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ وَأَوْدَعَهَا السَّحَاب وَالْغُيُوم عَلَامَتَيْنِ وَبَسَطَ الْأَرْض وَأَوْدَعَهَا الْأَرْزَاق وَالنَّبَات وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَابَّة آيَات جَعَلَ فِيهَا الْجِبَال أَوْتَادًا وَسُبُلًا فِجَاجًا وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَار وَالْبِحَار وَفَجَّرَ فِيهَا الْعُيُون مِنْ الْأَحْجَار دَلَالَات عَلَى وَحْدَانِيّته , وَعَظِيم قُدْرَته وَأَنَّهُ هُوَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار وَبَيَّنَ بِخَلْقِهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنَّهُ خَالِق كُلّ شَيْء .
خَرَّجَ مُسْلِم قَالَ : حَدَّثَنِي سُرَيْج بْن يُونُس وَهَارُون بْن عَبْد اللَّه قَالَا حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن مُحَمَّد قَالَ قَالَ اِبْن جُرَيْج أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد عَنْ عَبْد اللَّه بْن رَافِع مَوْلَى أُمّ سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْ فَقَالَ : ( خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَة يَوْم السَّبْت وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَال يَوْم الْأَحَد وَخَلَقَ الشَّجَر يَوْم الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوه يَوْم الثُّلَاثَاء وَخَلَقَ النُّور يَوْم الْأَرْبِعَاء وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابّ يَوْم الْخَمِيس وَخَلَقَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام بَعْد الْعَصْر مِنْ يَوْم الْجُمُعَة فِي آخِر الْخَلْق فِي آخِر سَاعَة مِنْ سَاعَات الْجُمُعَة فِيمَا بَيْن الْعَصْر إِلَى اللَّيْل ) . قُلْت : أَدْخَلَ الْعُلَمَاء هَذَا الْحَدِيث تَفْسِيرًا لِفَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَة ; قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَزَعَمَ أَهْل الْعِلْم بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ غَيْر مَحْفُوظ لِمُخَالَفَةِ مَا عَلَيْهِ أَهْل التَّفْسِير وَأَهْل التَّوَارِيخ . وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد وَإِبْرَاهِيم غَيْر مُحْتَجّ بِهِ وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى قَالَ : سَأَلْت عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ عَنْ حَدِيث أَبَى هُرَيْرَة ( خَلَقَ اللَّه التُّرْبَة يَوْم السَّبْت ) . فَقَالَ عَلِيّ : هَذَا حَدِيث مَدَنِيّ رَوَاهُ هِشَام بْن يُوسُف عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد عَنْ أَبِي رَافِع مَوْلَى أُمّ سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْ قَالَ عَلِيّ : وَشَبَّكَ بِيَدِي إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى فَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَيُّوب بْن خَالِد وَقَالَ لِي شَبَّكَ بِيَدِي عَبْد اللَّه بْن رَافِع وَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَة وَقَالَ لِي : شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو الْقَاسِم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( خَلَقَ اللَّه الْأَرْض يَوْم السَّبْت ) فَذَكَرَ الْحَدِيث بِنَحْوِهِ . قَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ : وَمَا أَرَى إِسْمَاعِيل بْن أُمَيَّة أَخَذَ هَذَا الْأَمْر إِلَّا مِنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُوسَى بْن عُبَيْدَة الرَّبَذِيّ عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد إِلَّا أَنَّ مُوسَى بْن عُبَيْدَة ضَعِيف . وَرُوِيَ عَنْ بَكْر بْن الشَّرُود عَنْ إِبْرَاهِيم بْن أَبِي يَحْيَى عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْم عَنْ أَيُّوب بْن خَالِد وَإِسْنَاده ضَعِيف عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ فِي الْجُمُعَة سَاعَة لَا يُوَافِقهَا أَحَد يَسْأَل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ) قَالَ فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن سَلَّام : إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اِبْتَدَأَ الْخَلْق فَخَلَقَ الْأَرْض يَوْم الْأَحَد وَيَوْم الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ السَّمَوَات يَوْم الثُّلَاثَاء وَيَوْم الْأَرْبِعَاء وَخَلَقَ الْأَقْوَات وَمَا فِي الْأَرْض يَوْم الْخَمِيس وَيَوْم الْجُمُعَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر وَمَا بَيْن صَلَاة الْعَصْر إِلَى أَنْ تَغْرُب الشَّمْس خَلَقَ آدَم خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيّ قُلْت : وَفِيهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَدَأَ الْخَلْق يَوْم الْأَحَد لَا يَوْم السَّبْت . وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَدَّمَ فِيهَا الِاخْتِلَاف أَيّمَا خُلِقَ أَوَّلًا الْأَرْض أَوْ السَّمَاء مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ .
ذَكَرَ بَعْد خَلْق الْجَوَاهِر خَلْق الْأَعْرَاض لِكَوْنِ الْجَوْهَر لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْحَوَادِث فَهُوَ حَادِث . وَالْجَوْهَر فِي اِصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الْجُزْء الَّذِي لَا يَتَجَزَّأ الْحَامِل لِلْعَرَضِ وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْره فِي الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى فِي اِسْمه " الْوَاحِد " وَسُمِّيَ الْعَرَض عَرَضًا لِأَنَّهُ يَعْرِض فِي الْجِسْم وَالْجَوْهَر فَيَتَغَيَّر بِهِ مِنْ حَال إِلَى حَال وَالْجِسْم هُوَ الْمُجْتَمَع وَأَقَلّ مَا يَقَع عَلَيْهِ اِسْم الْجِسْم جَوْهَرَانِ مُجْتَمِعَانِ وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَات وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَة فِي الصَّدْر الْأَوَّل فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكِتَاب وَالسُّنَّة فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا وَقَدْ اِسْتَعْمَلَهَا الْعُلَمَاء وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا كَلَامهمْ وَقَتَلُوا بِهَا خُصُومهمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَعْنَى الْمُرَاد بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّور فَقَالَ السُّدِّيّ وَقَتَادَة وَجُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ : الْمُرَاد سَوَاد اللَّيْل وَضِيَاء النَّهَار وَقَالَ الْحَسَن الْكُفْر وَالْإِيمَان قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا خُرُوج عَنْ الظَّاهِر قُلْت : اللَّفْظ يَعُمّهُ وَفِي التَّنْزِيل : " أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَله فِي الظُّلُمَات " [ الْأَنْعَام : 122 ] . وَالْأَرْض هُنَا اِسْم لِلْجِنْسِ فَإِفْرَادهَا فِي اللَّفْظ بِمَنْزِلَةِ جَمْعهَا وَكَذَلِكَ " وَالنُّور " وَمِثْله " ثُمَّ يُخْرِجكُمْ طِفْلًا " [ غَافِر : 67 ] وَقَالَ الشَّاعِر : كُلُوا فِي بَعْض بَطْنكُمْ تَعِفُّوا وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوز غَيْره قَالَهُ اِبْن عَطِيَّة . قُلْت : وَعَلَيْهِ يَتَّفِق اللَّفْظ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَق فَيَكُون الْجَمْع مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْع وَالْمُفْرَد مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَد فَيَتَجَانَس اللَّفْظ وَتَظْهَر الْفَصَاحَة وَاَللَّه أَعْلَم وَقِيلَ : جَمَعَ " الظُّلُمَات " وَوَحَّدَ " النُّور " لِأَنَّ الظُّلُمَات لَا تَتَعَدَّى وَالنُّور يَتَعَدَّى وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ أَنَّ بَعْض أَهْل الْمَعَانِي قَالَ : " جَعَلَ " هُنَا زَائِدَة وَالْعَرَب تَزِيد " جَعَلَ " فِي الْكَلَام كَقَوْلِ الشَّاعِر : وَقَدْ جَعَلْت أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَة وَالْوَاحِد اِثْنَيْنِ لَمَّا هَدَّنِي الْكِبَر قَالَ النَّحَّاس : جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُول وَاحِد . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَمُحَامِل جَعَلَ فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى .
اِبْتِدَاء وَخَبَر وَالْمَعْنَى : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَدْلًا وَشَرِيكًا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاء وَحْده قَالَ اِبْن عَطِيَّة : ف " ثُمَّ " دَالَّة عَلَى قُبْح فِعْل الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمَعْنَى : أَنَّ خَلْقه السَّمَوَات وَالْأَرْض قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاته قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامه بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كُلّه عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُول : يَا فُلَان أَعْطَيْتُك وَأَكْرَمْتُك وَأَحْسَنْت إِلَيْك ثُمَّ تَشْتُمنِي وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْف بِالْوَاوِ فِي هَذَا وَنَحْوه لَمْ يَلْزَم التَّوْبِيخ كَلُزُومِهِ بِثُمَّ وَاَللَّه أَعْلَم .
كتب عشوائيه
- التعليقات المختصرة على متن الطحاويةالتعليقات المختصرة على متن الطحاوية: تعليقات للشيخ الفوزان على العقيدة الطحاوية حتى يتبين مخالفاتُ بعض الشّراح لها من المتقدمين والمتأخرين، وعدمِ موافقتهم للطحاوي - رحمه الله -.
المؤلف : صالح بن فوزان الفوزان
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/1906
- مفسدات القلوب [ الجدال والمراء ]الجدال والمراء آفتان عظيمتان، ومرضان خطيران، يفسدان الدين والدنيا، ويهلكان الحرث والنسل ويجلبان الشرور والآثام، على الفرد والمجتمع. ولذا ينبغي على المسلم أن يترك الجدال والمراء ولو كان محقاً لأنهما يقسيان القلوب، ويزرعان الشحناء والبغضاء، ويتسببان في رفض الحق وتقرير الباطل.
المؤلف : محمد صالح المنجد
الناشر : موقع الشيخ محمد صالح المنجد www.almunajjid.com
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/339986
- مواضيع تهم الشباباشتملت هذه الرسالة على أوصاف المؤمنين، وأسبابِِِِِ السعادة، والحث على شكر النعم، ومحاسبة النفس في القول والعمل، وعلى التنبيه على الأعمال المشروعة للمسلم في اليوم والليلة بإيجاز، وعلى ذكْر شيء من محاسن الدين الإسلامي، كما اشتملتْ على ذِكر أهمية الوقت في حياة المسلم، وحفظ الأوقات والاستفادة منها، وأهم ما يُشغل به الوقت، وعلى ذكر أهمية القراءة وفوائدها وقواعد المذاكرة السلمية، وعلى بيان دور المسلم في الحياة، ومقتضى العبودية لله، وحُكم السفر إلى بلاد الكفرة، والتحذير منه وبيان خطره، وعلى ذِكْر شيء من أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف الإسلام مِن القلق، والحث على الالتزام بالمنهج الإلهي، وذِكْر شيء من المنجيات من عذاب الله، وآداب الأكل والشرب واللباس، إلى غير ذلك ممَّا اشتملتْ عليه من أحكام، وفتاوى، وفوائد.
المؤلف : عبد الله بن جار الله بن إبراهيم الجار الله
الناشر : شبكة الألوكة http://www.alukah.net
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/335001
- الله لطيف بعبادهالله لطيف بعباده: قال المصنف - حفظه الله -: «فما سمعت أذن، ولا رأت عين ألطف بالعباد من رب العباد، ترى الأمور العظام والمصائب الشداد، فإذا انجلى الأمر فإذا الخير والأجر. الله لطيف بعباده؛ خلقهم، ورزقهم، وهداهم، وأسكن من شاء منهم جنته، رحمته سبقت غضبه، وفضله سبق عقابه. هذا الكتيب... إلى من استوحشت به الطرق، وافترقت به المسالك، وأظلته سحابة حزن، وترك له الزمن جرحًا ينزف.. الله لطيف بعباده».
المؤلف : عبد الملك القاسم
الناشر : دار القاسم - موقع الكتيبات الإسلامية http://www.ktibat.com
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/208983
- المنظار في بيان كثير من الأخطاء الشائعةالمنظار في بيان كثير من الأخطاء الشائعة : هذه الرسالة تحتوي على نصائح وتنبيهات على مخالفات للشريعة، شاع غشيانها، وكثر الجهل بحكمها.
المؤلف : صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/167482












